واقــع التعليــم العالــي
مشكلاته الرئيسية وأسبابها
يقاس التطور الحقيقي لأي مجتمع بمدى تحقيقه للتنمية البشرية, إحدى مكونات التنمية المستدامة. وحيث أن المؤسسات التعليمية هي المحرك الأساسي لمثل هذه التنمية , مما يتطلب الاهتمام بتطوير هياكلها وتنمية مواردها لضمان جودة مخرجاتها .
يتفق الجميع على حقيقة تدهور مستوى التعليم في ليبيا بصفه عامه خلال الأربعة عقود الماضية, الأمر الذي أدى إلى تدنى جودة مخرجاته , ومن ثم عدم تناسب هذه المخرجات مع حاجة التنمية والاقتصاد الوطني.
نحن الآن أمام تحديات تفرض علينا إعادة النظر في التعليم العالي ومحاولة إصلاحه وتطويره, انطلاقا من إن ذلك هو المقدمة الطبيعية لإصلاح ورقى المجتمع . إن النظرة الفاحصة لواقع التعليم العالي تظهر إن هناك تحديات كثيرة تعوق تطويره وتحديث مؤسساته ويمكن حصرها في التالي :
أولا : غياب ألاستراتيجيه المستقبلية المحددة للقطاع
يجب إن يكون لقطاع التعليم العالي _ كغيره من القطاعات _ استراتيجيه واضحة الأهداف والمعالم قابله للتطبيق والقياس ,يشارك في بنائها جميع الفئات ذات العلاقة , كل حسب تخصصه ودوره في المجتمع ( تعليمي – اجتماعي – اقتصادي ) بحيث تخدم هذه الآستراتيجيه مسيرة المجتمع وتقدم له الرؤية المستقبلية والحلول لمشكلات الواقع, وأفضل الطرق للوصول إلى بناء مجتمع المستقبل في ضوء الخصوصيات الوطنية والمقاييس الدولية .
ثانيا : ضعف أداء مؤسسات التعليم العام
يعتبر التعليم الاساسى والثانوي اللبنة الأولى التي تحدد شخصية الطالب الاجتماعية وتشكل رؤيته للعلم والتعلم والمعنية بإنتاج مدخلات التعليم الجامعي. عليه يجب إن تحضي هذه المرحلة من التعليم باهتمام خاص وذلك بتوفير كافة الاحتياجات اللازمة لتحقيق مستهدفاته . في هذا الصدد يجب التأكيد على نوعية المعلم , العنصر الاساسى في العملية التعليمية بحيث يقتصر الاستعانة بالصفوة من المعلمين ذوى الكفاءة العلمية والتربوية العالية للإشراف والمساهمة في تنفيذ البرامج التعليمية . كما يجب إعادة النظر في مفردات المناهج وطرق التدريس والتقييم بحيث يستهدف تطوير ملكات الطالب الذهنية وحثه على التفكير والاستنباط والنقاش والابتعاد عن مبدأ التلقين والاستظهار , مع تقديمه بشكل تصاعدي إلى التقنية المعلوماتية واللغات الأجنبية والدروس المعملية والخدمات المكتبية , وكذلك التركيز على بناء شخصية الطالب الاجتماعية وغرس روح المثابرة والالتزام واحترام الغير , وتنمية إحدى الهوايات لديه وتشجيعه في الانخراط بالأنشطة الثقافية والأجتماعيه والرياضية المتوفرة في محيطه .
ثالثا : التدفق الهائل من الطلاب على مؤسسات التعليم العالي وإهمال التعليم والتدريب التقني
إن قضيه الزيادة العددية في متلقي المعرفة الذي يمثل " الكم " يجب إن لا يكون على حساب نوعية وكفاءة الخريج . إن زيادة الكم على حساب "الكيف " في مؤسسات التعليم العالي قد يكون له العديد من الأضرار السلبية , والتي من أهمها وجود خريجين ذوى تعليم ضعيف لا يؤهلهم لآي عمل منتج أو خلاق . ومع ذلك فأنهم يكونون طلاب وظائف - وفى حالة حصولهم على هذه الوظائف المرغوبة سيكون مردودها عكسي على المجتمع - وسيتقاضون مرتبات نظير عملهم وبالتالي سيخسر المجتمع مرتين .
- الأولي في الإنفاق علي تعليم ضعيف وهزيل.
- الثانية في توظيف عقيم لأعداد كبيره لا تلبى بإنتاجها المتواضع طموحات المجتمع .
وفى المقابل إذا لم تخلق فرص عمل للأعداد الكبيرة من الخريجين سنويا فهذا سيؤدى إلى تفاقم مشكلة البطالة بين اكبر شرائح المجتمع شبابا وحيوية . ومن ثم فنحن أمام وضع لا بد فيه من الموازنة بين الواقع والطموح وبين المطلوب والمتاح من خلال إعادة النظر في شروط وأساليب قبول الطلاب بالجامعات بشكل يراعى فيه المهارات الذهنية والتقنية لكل تخصص ,وكذلك القدرة الاستيعابية للكليات واحتياجات سوق العمل , مع وضع الحوافز لتشجيع الطلبة على الانخراط في برامج التعليم والتدريب التقني كبديل موازي للتعليم الجامعي .
رابعا: الخلل الهيكلي في مؤسسات التعليم العالي
يشهد قطاع التعليم العالي انتشار مؤسساته أفقيا بصوره فجائية , غير متدرجة وغير مدروسة . إن هذا الخلل الهيكلي في مؤسسات التعليم العالي هو الذي أدى بصوره مباشره إلى وجود الفجوة الهائلة بين أعداد الخريجين وحاجة مرحلة العمل , ومن البديهي انه أدى أيضا إلى ضعف مستوى الخريجين الذي يظهر جليا في خريجين الكليات الناشئة بسبب افتقارها شبه الكلى لمتطلبات التعليم العالي . إن معالجة مشكلتي الجودة وعدم التوافق بين المخرجات وحاجات مرحلة العمل يتطلب المعالجة الجوهرية الصارمة بإعادة هيكلة مؤسسات التعليم العالي .
خامسا: ضعف البنية التحتية لمؤسسات التعليم العالي
ما من شك إن البنية التحتية لمؤسسات التعليم العالي ضعيفة جدا لا تتناسب مع ضغوط التدفق المستمر للطلاب , ولا مع ضرورات التطور النوعي في التعليم , ومصدر الضعف هو الإنشاء الفجائي والعشوائي لمؤسسات التعليم العالي التي أقيمت في أماكن غير مهيأة لهذا النوع من التعليم .
سادسا : الخلل التشريعي والإداري ( فقدان استقلالية مؤسسات التعليم العالي )
يحكم التعليم العالي مجموعه من التشريعات والنظم التعليمية و الإدارية والأعراف والتقاليد الجامعية المستقرة القابلة للقياس لتقييم جودة الأداء . فإذا اختلت هذه التشريعات والنظم والأعراف فمن الطبيعي توقع انحدار التعليم العالي .
سابعا : ضعف أداء أعضاء هيئه التدريس
يوجه اللوم إلى أعضاء هيئه التدريس بالجامعات ويحملون مسؤولية تدنى مستوى الخريجين وينبعث هذا اللوم من المسائل التالية :
1- تهافت أعضاء هيئه التدريس على الكسب المادي عن طريق التعاون الواسع مع غير مؤسساتهم الأصلية .
2- عدم الجدية في الرفع من مستواهم العلمي عن طريق الاطلاع والبحث ومتابعة التطورات العلمية .
3- هبوط مستواهم المهني وانضباطهم.
ومن غير الممكن تبنى نظره أحاديه تجاه أعضاء هيئه التدريس , فهم كغيرهم من إيه جماعه, تتنوع أوضاعهم العلمية والمهنية والأخلاقية , فبينما يرتفع الكثير منهم إلى مستوى العلماء الكبار , فمن الطبيعي إن يوجد بينهم من يدفعه التهافت إلى انحدار العلمي والمهني , ومع ذلك يجب الاعتراف بوجود مشكله انبعثت للأسباب التالية :
1- الأوضاع المادية لأعضاء هيئه التدريس ... فقد أدى النظر إليهم كموظفين خلال سنوات طويلة إلى تدنى أوضاعهم المادية والحياتية , مما دفع بالكثير منهم إلى البحث عن وسائل جديدة لرفع من مستواهم المادي , وذلك آمر انعكس على مجمل أوضاعهم العلمية والمهنية .
إن علاج هذا الواقع , أخيرا , من المتوقع تأثيره ايجابيا بعودة أعضاء هيئة التدريس نحو مسارهم الطبيعي .
2- طرق إعداد أعضاء هيئه التدريس ..
دأبت الجامعات ومؤسسات التعليم العالي على إعداد أعضاء هيئة التدريس بطرق علميه, تبدأ منذ اختيارهم على أساس الكفاءة والتفوق الذهني , وفق قواعد معروفه للمنافسة بين الخريجين , ثم الحرص على تأهيلهم في اعرق الجامعات العالمية وأكثرها تطورا, وأخيرا تعيينهم وفق أساليب علميه , ووضع نظام صارم لترقيتهم العلمية .
إن هذه التقاليد قد فقدت خلال أعوام طويلة , وفتحت الأبواب أمام أعداد كبيره للنفاذ إلى هذه المهنة المرموقة ممن يفتقدون لشروط شغلها , وقد ساهم في ذلك الانتشار الكثيف لمؤسسات التعليم العالي , فتكاثر الطلب على تعيين أعضاء هيئه التدريس بصرف النظر عن مستوى تأهيلهم أو التزامهم .
ثامنا : ضعف مستوى المناهج التعليمية وطرق التدريس
يعاب على المناهج الجامعية ضعفها وعدم تطورها , فهي في اغلبها مناهج قديمه لم تجارى التطورات العصرية من حيث مضمونها وطرق تدريسها ,كما تعانى من الازدواجية والتكرار ولا تكرس تداخل وتكامل العلوم والتخصصات في برنامج واحد .
تاسعا : ضعف التمويل والموارد
إن إحدى المشكلات الرئيسية التي تعانيها الجامعات هي مشكلة التمويل من حيث مصادره, وحجمه , وطرق تخصيصه .
فمن حيث المصدر فإن تمويل الجامعات يعتمد كليا على الدعم المقدم من المجتمع, مما يوجب التفكير في تنويع مصادره بطرق واقعيه تأخذ في الاعتبار ظروف المجتمع الليبي وتوجهات الاقتصاد الوطني . كما إن حجم هذا التمويل لم يعد كافيا , فحجم التدفقات الطلابية الهائلة لا يتناسب مع حجم التمويل ,أما من حيث طرق التخصيص والصرف فإنها ليست مناسبة ما لم تتمتع الجامعات بقدر كبير من الاستقلالية والمرونة الإدارية .
عاشرا : ضعف برامج الدراسات العليا والبحوث بالجامعات وغياب دور التعليم في التنمية واستثمار الموارد
تعتبر الدراسات العليا والبحوث من أهم وظائف التعليم العالي في الدول المتقدمة . وهى تتمثل في إعداد كوادر العلماء والباحثين وتنمية المعرفة العلمية المتخصصة والإسهام في حل المشكلات العلمية والفنية للمؤسسات الإنتاجية والخدمية والانفتاح على العالم الخارجي . إن الدراسات العليا تعد ارقي أنواع الاستثمارات طويلة الأمد إذ أنها تؤدى إلى تكوين الرأسمال البشرى القادر على استغلال الإمكانيات الاقتصادية استغلالا امثل مما يساهم في دفع عجلة التنمية .
بعد أن تم استعراض فلسفة وأهداف الدراسات العليا والبحوث بشكل عام , نتساءل هل حققت المؤسسات الوطنية للتعليم العالي هذه الأهداف؟ وإذا لم تتحقق ما هي المشاكل والمعوقـــات يا ترى ؟
تلك هي الأسباب الرئيسية لضعف مستوى التعليم العالي , وتدنى جودة مخرجاته وبالتالي عدم قدرتها على تلبية احتياجات المجتمع .
إن هذه الأسباب تستدعى التدقيق والتحليل الموضوعي في ضوء ظروف المجتمع الليبي , ووفق المعايير العالمية لإظهار مواطن الخلل , ومن ثم التعرف على كيفية المعالجة لتحقيق الأهداف المرجوة من التعليم العالي.
د.مصطفى الفاخري
22/07/2011