حتى لا تتحول الميزة إلى عبء (3)

 

dr

نترحم علي أرواح الشهداء الأبطال لثورة 17 فبراير، ونحي شبابنا ركيزة الوطن وعماد المستقبل ممن يمثلون ميزة الوطن الشاب التي أخفق فيها نظام القذافي وحولها إلى عبء يصعب التعامل معه والاستفادة منه، ونذكر بأن الدول المعاصرة تقاس بما تمتلكه من رأس المال المعرفي الذي يوصف بأنه يتراكم ويحتاج إلى استثمار ورعاية, ويمكن تحديده في مؤسسات علمية وأكاديمية وكوادر وبراءات اختراع وخبرات تراكمية، فضلا عن تضمينه سلسله من القيم والمفاهيم المجتمعية والمقدرة على التطوير للعلم والعلماء, ولا ينتهي بالاستخدام أو الاستهلاك.

في ليبيا تبرز وتتكرر الحاجة إلى الاهتمام بالتربية قبل التعليم، ويتأكد أهمية ربط المعرفة في الخطط التنموية بالعامل الاجتماعي والإنساني بإدخال البعد الاجتماعي في المناقشات الجادة للتنمية البشرية، وهذا يعد تحديا نوعيا، وتطورا مرحلياً ونظريا مهما يفتح آفاق واسعة لإنتاج معرفي غني ورصين في تفسير مسارات التنمية البشرية والأداء الاقتصادي، كما أن عقلانية المفهوم شكلت مساراً جديداً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية, وأصبحت كذلك شرطا لضمان الديمقراطية التي لا يمكن أن تكون في مجتمع لا يعرف الإنصاف والاستقرار، وبالتالي الإبقاء على التماسك الاجتماعي الذي يولده المجتمع المدني وتحتضنه التنمية الاجتماعية, والذي يهدده الإقصاء الاجتماعي وتوفره المصالحة الوطنية والعدالة الاجتماعية، ومنها تعزيز الشبكات الاجتماعية وتبادل المعلومات المطلوبة لتحقيق الفعل الجماعي, الأمر الذي يؤدي إلى احتواء عنفوان الفردية المطلقة, وخلق التوازن في طريق بث روح التعاون, وبما يعزز الحالة الروحية والهوية والانتماء للوطن ويبعث الفاعلية ويخلق التطور.

إعادة هيكلة النظام التعليمي لتلبية حاجات المجتمع والتطور التكنولوجي المتسارع في نوعية وكمية الموارد البشرية المطلوبة، حيث أن التطورات التقنية المتلاحقة في عالمي الصناعة والخدمات أدت إلى جعل السياسات التربوية التقليدية في تخريج أفواج من المهنيين الفنيين والمهندسين الجامعيين الذين يلمون إلماماً عاماً بالمناهج الفنية والهندسية الأساسية، مع بعض المقاربة العملية الضعيفة للتجارب المخبرية، تضاف إليها في أفضل الأحوال زيارات ميدانية إلى بعض المؤسسات الصناعية، غير قادرة على التصدي المباشر للتحديات التقنية التي تواجهها الصناعات الحديثة الصغيرة منها والكبيرة. الأمر الذي وضع المؤسسات الصناعية والخدمية الناشئة في بلدنا أمام تحديات إعادة التأهيل والتدريب، التي هي أصلاً من غير وظيفتها الأساسية، فأصبحت العملية التأهيلية، عملية مكلفة وبأداء غير مضمون أو متكامل.

Read More

 

ثمة مفاهيم خاطئة لا تزال سائدة، تتعلق بعدم حاجتنا أصلاً لطاقة بشرية عالية التأهيل والتدريب، لأن مثل تلك الطاقة، إنما يطلب في بيئة صناعية متطورة تطبق مفاهيم الميكنة الصناعية حيث يتسم الواقع بانخفاض كلفة اليد العاملة، وبالتالي فإن ميكنة أقل ستعني تشغيلاً لأعداد أكبر من العاملين وبكلفة أقل. قد يبدو هذا الكلام صحيحاً بصورة سطحية، ولكنه ليس صحيحاً في إطار الواقع الفعلي للأمور، وللتطورات التكنولوجية المتلاحقة التي شهدتها الساحة العالمية، وللسرعة الكبيرة في انتشار نظام العولمة وزيادة أعداد الدول المنضمة إلى اتفاقية التجارة العالمية، وهذا يعني أن صناعتنا المحلية القائمة أو المتوقعة مثل الصناعة السياحية أو الصناعات النفطية ستنافس صناعات  الدول المتطورة نوعاً وكلفة، وأن مواردنا البشرية ستتنافس مع الخبرات البشرية العالمية. والخبير بالصناعة الإنتاجية أو الخدمية يعرف تماماً أنه لم يعد بمقدور أي أحد أن ينتج بتقنية تقليدية يدوية منتج ينافس منتج ينتج بتقنية الميكنة تصميماً وتصنيعاً لا من حيث الجودة ولا من حيث الكلفة، وليس بمقدور خبير بالممارسة أن ينافس خبير ماسك بزمام التقنية الحديثة من نظم معلوماتية وتنظيمية وإنتاجية وإدارية خبيرة وعالية الأداء. أمام هذه التحديات لابد لنا من إعادة النظر، فيما نحن عليه ودراسة الواقع وتحليله وتحديد متطلبات المرحلة القادمة من الموارد البشرية، وصياغة أهداف واضحة واستراتيجيات واقعية طموحة في هذا المجال.

إن دخول المعلوماتية وتوسعها أدى إلى ضرورة رفع قدرات وإمكانيات العامل الذي يقف خلف الآلة، أو يراقب عدد من الآلات المبرمجة، بحيث يتطلب منه الإلمام  بلغة برمجة أو أكثر وبالحاسبات ومواصفاتها الأساسية وطرق تشغيلها، وبالتحليل العددي والإحصائي، وكذلك التنظيم الصناعي ولغة أجنبية أو أكثر، وأن يكون متخصصاً في مجال محدد من الصناعة وقادراً على التحول بسرعة إلى مجال آخر وقادر على التفاعل مع المصمم على شبكة حاسوبية. هذه المؤهلات لا تتوفر بمقاييسنا الحالية في مؤسساتنا التعليمية والتدريبية وفي الوقت الذي تتطلب فيه التقنيات الحديثة زيادة في المؤهلات العلمية للعاملين خلــف الآلات قلت إلى حد كبير سنوات الخبرة العملية المطلوبة، وباختصار قلت المهارات اليدوية والخبرة الشخصية المطلوبة على حساب زيادة سنوات الدراسة اللازمة للعمل، ينسحب ذلك على جوانب الحياة الأخرى للعاملين في التصميم والإدارة والخدمات واللغات المتعددة وما شابه ذلك.

 

هناك إشكالية في مفهوم البحث العلمي وأهدافه وأولوياته، فحسب المفهوم السائد فأن البحث العلمي هو بحد ذاته يؤدي إلى تطوير المجتمع بشكل عام، في حين أن البحث العلمي ربيب المجتمع والصناعة، ينمو بنموها ويساعدها على التطور والمنافسة، ويخبوا مع ضعفهما ويكون عالة عليهما. والبحث العلمي في وطننا العربي ومعظم الدول النامية يرضع من ضرع جاف، فالصناعة ضعيفة متخلفة والمجتمع أميل إلى الهزال منه إلى القوة والمنعة، ولا سبيل إلى تطوير البحث العلمي إلا بتنمية الصناعة وإطلاقها من مرحلة الرعاية والحماية إلى مرحلة النضج والمنافسة، وأحد أكبر ضحايا الحماية المطلقة للصناعة الوطنية هو البحث العلمي.

إن أي برنامج وطني لتطوير الصناعة الوطنية وإعادة تأهيلها تقنياً، ورفع الحماية عنها سيؤدي ذلك حتماً إلى تحريك البحث العلمي، الأمر الذي يتطلب إعادة تأهيل الباحثين على التقنيات الجديدة وخاصة تقنية المعلومات ووضع وسائلها تحت تصرفهم من برامج متطورة وشبكات معلومات، وبالتالي إعادة هيكلة منظومة البحث والتطوير لتكون قادرة على استيعاب وتوطين التقنيات الحديثة والعمل على تطويرها وتسويقها، وتطوير تقنيات وطنية تجعل الصناعات والخدمات الوطنية منافسة في السوق العالمية.

 

وللحديث بقية

عاشت ليبيا حرة ومستقلة، وعاشت ثورة الشباب

العزة لله، والمجد للشهداء

 

د. محمد سعد أمبارك